آراء

أيها النخب اخرجوا من مُربّعكم العقيم

لو سمحت لنفسي معتذرا، أن ألخص في بضع كلمات الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك بالأمس في البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية الجديدة لكتبت : “المغرب في حاجة مستعجلة لتغيير نموذجه التنموي وسبل تفعيله وحكامته وسأحرص بالبيداغوجية والصرامة الكافيتين على بلوغ ذلك مهما كانت كلفته.”

لقد توجهت إلى النخب الوطنية في مقال سابق نشرته على جداري خلال شهر ماي الماضي، بأن تتحلى بالموضوعية والشجاعة الواجبتين، للإعلان الجماعي عن إفلاس نموذجنا الإقتصادي الذي رغم كل الجهد المبذول منذ المراهنة عليه، ورغم إنجازات كمية لا تنكر ويجب الإعتزاز بها إذ مكنت بلدنا بشكل حاسم، من أن يقفز منذ بداية سنة 2000 على وجه الخصوص، عشرات السنين إلى الأمام، فإنه لم ينتج إلا قليلا جدا من الأغنياء وكثيرا جدا من الهشاشة والفقر بمختلف تجلياتهما. إن ما نعيشه في بلدنا خلال السنوات الأخيرة من تعبيرات جماعية هنا وهناك مستاءة من هذا الوضع والتي مثل خطاب جلالة الملك أقوى وأفصح وأكفأ وأصدق وأرقى ترجمة لها، هو تنبيه واضح وصريح إلى كون مصعد الارتقاء الاجتماعي متوقف وأن الاختيارات الاقتصادية المطبقة ونتائجها الإجتماعية قد برهنت عن محدوديتها بل وعجزها وأنه آن الأوان وبكل استعجال لابتكار نموذج اقتصادي جديد ينتج الرخاء الاقتصادي والعدالة الاجتماعية كمطلبين مشروعين.
إن المطلوب الملح اليوم هو أن نخرج بذكائنا من المربع الذي تنحبس فيه وبه كل رؤانا واختياراتنا ويحجب عنا كل الممكنات المتاحة، إلى فضاءات أرحب ننعتق فيها من الوجبات الاقتصادية والمالية الجاهزة وننهل من ابتكار الممكن الذي يحقق أهدافنا الجماعية.

إن الليبرالية المغالية والفقر والهشاشة كإحدى تجلياتها البشعة والمتبطة والرديئة، ليسوا قضاء ولا قدرا يجب أن نستسلم أمامهم ونتقبل التعايش معهم وننتظر الدار الآخرة لننعتق من آثارهم المستفزة والمخجلة.

إن الليبرالية الفردية ليست ولا يمكن أن تكون الاختيار الأوحد والقطب الأوحد في بلد يمثل فيه المقاول والمنتج الصغير 90 % من الفاعلين الاقتصاديين. فعلى الدولة أن تنتشل نفسها على وجه السرعة من فخ الليبرالية المعمقة للفوارق الاجتماعية والفقر والهشاشة والهجرة المكثفة وتعدد الوثائر بين الفاعلين، التي أبانت نتائجها الكارثية أن بلدنا أكثر ليبرالية من أعظم الاقتصاديات الليبرالية ومن إملاءات المؤسسات المالية الدولية نفسها.

مثلما أن اللجوء إلى تسميات لا تعدو أن تكون تجميلية وتسويقية كالليبرالية الاجتماعية، من أجل تبييض الوجه القذر لليبراليتنا، لن يتعدى دور تأجيل الحلول البنيوية وتعريض البلد إلى المزيد من الاحتباس الاقتصادي والاجتماعي. إن الليبرالية الاجتماعية هي البديل الذي لجأت له خلال العشرين سنة الأخيرة الدول المتقدمة اقتصاديا والتي لا تتعدى فيها نسبة الفقر والهشاشة بشقيها القروي وغير المهيكل 10 إلى 15%، من أجل إصلاح الآثار السلبية لنظامها الليبرالي المتبع والذي تستفيد منه إيجابيا 90% من ساكنتها. وبلدنا بعيد جدا عن مستوى تقدم هذه الدول.
إن الفعالية والنتائج الاقتصادية المرضية ومصلحة المجتمع والوطن هم الذين يجب أن يملوا علينا اختياراتنا وليس أبدا دغمائية اقتصادية متجاوزة حتى من منظريها الأصليين أنفسهم.
إن بلدنا في حاجة إلى نموذج اقتصادي مغربي مؤنسن وواقعي وعملي يقوم على التزاوج والتعايش بين اقتصاد السوق واقتصاد القرب وبين الليبرالية الفردية والليبرالية الجمعية.
إننا بقدر ما نؤمن بالمبادرة والحرية الفردية المشروطة بإعداد أحسن مناخ وطني ودولي لنجاحها، وبتكافؤ الفرص بين كل الفاعلين فيها، يجب أن نكون على نفس القدر من الإيمان بوجوب إحداث قطب ليبرالي جمعوي قوي موازي للقطب الليبرالي الفردي يحظى بالمواكبة والدعم المطلقين للدولة التي يجب أن تضطلع بدورها كاملا كمتدخل استراتيجي فيه وكحاضنة له كقطب اقتصادي ثان في البلد من خلال الاقتصاد الاجتماعي المهيكل والتنافسي والفعال الذي سيلعب هو أيضا دوره كاملا في خلق النمو الاقتصادي والتشغيل المكثف والقيمة المضافة العالية محليا والرفع من مستوى الصادرات، إضافة إلى تحقيقه للتنمية الاجتماعية كهدف أسمى.

إن تعايش ليبرالية فردية فعالة وتنافسية مع ليبرالية جمعوية لا تقل فعالية ولا تنافسية ولكن برؤى وأدوار وسلوكات مختلفة للدولة وللفاعلين الخواص، يشكل بكل تأكيد إحدى الأعمدة البارزة والواعدة للنموذج الاقتصادي الواجب ابتكاره هنا والآن والذي سيكون من رافعاته الكبرى التي ستعيد تشغيل مصعد الإرتقاء الاجتماعي وستمنح الشغل المكثف والدخل والعيش الكريم والتعليم الضروري واللائق لكل المغاربة في كل الجهات وعلى مدى القرون القادمة :

1- الإستثمار في العنصر البشري في مجالات تحصين القيم المشتركة وتفعيل تعليم وتكوين وثقافة بمضامين تجمع بين خصوصياتنا المميزة وانفتاحنا الواجب على الكونية، وعلى مقاربات أبانت عن نجاعتها في بلدان تشكل مرجعا للتميز في هذه المجالات على الصعيد الدولي،
2- تطبيق سياسات قطاعية فعالة ومدمجة تستجيب لمواصفات الدول الصاعدة من حيث سبل تمويل الفاعلين واندماجهم الأفقي وتعاضد تمويناتهم واسواقهم وتتبع الأهداف المحددة معهم كما وتقوم على رؤية تنموية كيفية ومجددة سواء في مقاربة القطاعات المحصية والمفعلة أو التي تشكل خزانات ضخمة لثورة صناعية في العالم القروي والمدن على السواء، قادرة على خلق الشغل المكثف والقيمة المضافة العالية محليا والدخل المنصف والمستمر، من خلال القطب الليبرالي الجمعوي الجديد الذي يضم قطاع الاقتصاد الاجتماعي والقطاعات الإنتاجية التي هي بيد المقاولات الفردية أو الصغيرة جدا أو الصغيرة التي تنشط في الاقتصاد غير المهيكل على وجه الخصوص.
3- تفعيل سياسة استثمارية عمومية واقعية وناجعة تقوم على هاجس المنفعة الاقتصادية والمردودية القوية حيث يجب أن ترتكز على تدعيم الاختيار الطاقي الجديد لبلدنا وتنفتح على مجالات جديدة تشكل خزانات للتشغيل المكثف والدخل المستمر والكريم والنمو الاقتصادي القوي والكرامة الجماعية ك :
أ- التجهيز الرقمي للاقتصاد الوطني،
ب- ومقاربة ابتكارية لتصور وإعداد التراب الوطني تقوم على تكسير الحواجز بين كل الفضاءات وتملك هذه الفضاءات داخليا وعولمتها دوليا،
ج- وإنشاء الطرق السيارة المائية لتحويل المياه من الريف إلى السايس ومن الغرب إلى الحوز وسوس، وإنشاء منصات معالجة المياه العادمة وتحلية مياه البحر،
د- وتشجير 10 ملايين هكتار على مدى عشر سنوات في مختلف الجهات وعلى رأسها الريف ذي التربة الطينية التي تتطلب عملية تشجير عاجلة وواسعة لتثبيتها وإنقادها من الانجراف،
ه- وإنشاء موانئ للنقل الداخلي للسلع ببن مختلف الجهات من الداخلة إلى الحسيمة،
و- وإعداد مناطق سياحية جديدة تتميز بمؤهلات منقطعة النظير وعلى رأسها مناطق مختلفة في الريف التي تذهب العقل بسحر جمالها،
ز- وتجهيز كل جهات المملكة في مدى لا يتعدى عشر سنوات على أبعد تقدير بدأ بالأولى ثم الأولى، بالحد الأدنى لصون كرامة ساكنتنا خاصة في العالم القروي، بمدارس وطريقة تمدرس وإقامة من جيل جديد ومغاير لما هو معتمل في المدن، ومستوصفات وطرق وماء صالح للشرب وكهرباء …إلخ.
4- إقرار حكامة جديدة تقوم على الكفاءة والنجاعة والفعالية والتنسيق المحكم في تطبيق السياسات العمومية، والتقييم والتتبع للنتائج والتحيين السريع لهذه السياسات عند الاقتضاء، والتحفيز والدعم المعنوي لشرفاء البلد الذين يحملون بين أحشائهم وفي كل نبضات قلوبهم وخلايا عقولهم هم الآخرة وحب الوطن والكفاءة المتميزة ونكران الذات والتجربة والعزيمة القوية والشجاعة الواجبة للمساهمة في البناء والإصلاح وإسعاد المغاربة ورفع همة البلد، دون أي شرط مادي.
5- ابتكار وسائل تمويل عمومي جديدة إضافية من خلال :
أ- إحداث نظام ضريبي عادل ومستقر ومحفز ومدمج يوضح الرؤية لكل الفاعلين،
ب- وإحداث ضرائب جديدة كالضريبة الفلاحية على الفلاحين الكبار والمتوسطين والضريبة على الإرث عند البيع والضريبة على الثروات الكبرى التي تتعدى 500 مليون درهم،
ج- وإحداث صندوق الزكاة الذي يوجه كله لمشاريع الكرامة الاجتماعية من بنيات تحتية في العالم القروي وتجهيز المستشفيات وتمويل الحالات الاجتماعية المستعصية وتموين منح الدراسات العليا لأبناء العالم القروي في أرقى المعاهد الوطنية والدولية كمصعد أساسي للإرتقاء الاجتماعي،
د- وبيع الدولة تدريجيا حسب الحاجة، لجزء من رصيدها العقاري في مراكز المدن، الذي بلغ أسعارا مرتفعة جدا في وقت لا تستغله الدولة مطلقا أو يعتبر استغلاله غير مبرر مطلقا،
ه- وإحداث اكتتابات على الأقل مرة كل خمس سنوات لتمويل قسط من المشاريع الكبرى الموحدة للأمة وذات النفع على الأجيال المقبلة كمشروع تشجير 10 ملايين هكتار ومشاريع المنصات المائية لمعالجة وتحلية المياه والطريق السيار الحسيمة-لكويرة. ويساهم في هذه الإكتتابات كل المغاربة كل حسب إرادته الحرة ويؤدي فيها الغني عن الفقير بشكل وطني راقي يحفظ عزة النفس للجميع ويقوي روح الانتماء الجماعي للوطن والتضامن بين كل مكونات الأمة. كما يمكن أن يساهم في هذه الاكتتابات دول شقيقة وصديقة ومنظمات دولية متخصصة وأغنياء العالم ذوي الاهتمام بالتنمية البشرية والبيئية عبر العالم، الذين يحضى جلالة الملك لديهم بالمصداقية العالية.
إن الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في جيلهما الجديد الذي يساير مستجدات وتحديات مغرب القرن الواحد والعشرين واللتين يجب تفعيلهما دون أي انتظار، هما الأداة الفعالة من أجل الانتقال من مقاربة التستر عن رداءة الحكامة وهزالة النتائج عبر سياسة تواصلية فجة تستخف بذكاء المغاربة ومعاناتهم، إلى مقاربة تنموية واقعية وطموحة لبلوغ أهداف إعادة تشغيل سلم الارتقاء الاجتماعي والتوزيع العادل لنتاج الجهد المشترك والتوسيع البنيوي للطبقة الوسطى ومصالحة شبابنا مع الطموح والأمل ووضع كل الفاعلين على وثيرة نمو واحدة والانتشال البنيوي والنهائي لساكنتنا القروية من البؤس والفقر وانسداد الآفاق وترسيخ الاستقرار الأمني والاجتماعي والارتقاء ببلدنا في مرحلة أولى إلى مصاف الدول الصاعدة.
إن المغاربة واعون ومقتنعون وواثقون بأن مطمحهم هذا هو اليوم وأكثر من أي وقت مضى، في المتناول لأن جلالة الملك قد رفع سقف الممكن عاليا جدا في أعين وإحساسات شعبه بفضل طموحاته العالية لشعبه وبلده وبفضل رؤيته المتنورة وبفضل مقاربته البرغماتية والإنسانية المتميزة وبفضل قربه غير المسبوق من نبض وقلوب وانتضارات المغاربة وبفضل حضوره الميداني الباهر وبفضل نجاحاته المشهود بها وبفضل إشعاعه الجهوي والقاري والدولي.
لقد عبر جلالة الملك في خطابه بالقوة الكافية على أن النذرة والعدو المشترك الآن في بلدنا هو الزمن وأن منطق الانتظار والتلكؤ والتماطل وجبر الخواطر والتوازنات الفجة والعقيمة لم يعد لا مقبولا ولا ممكنا. كل مقومات ثورة ملك وشعب جديدة حاضرة إذن بقوة اليوم وليس الصبح ببعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى