سمير شوقي يكتب: الجزية و الإهانة!
كان أول إجراء قامت به الخارجية الأمريكية، عقب الاعتراف الأخرق لترامب بالقدس كعاصمة لإسرائيل، هو تشكيل خلية خاصة برصد ردود الفعل و قياس مدى قوتها و إمكانية امتداداتها. لكن اللافت أن الردود التي قصدت الخارجية الأمريكية ليست موجة الاستنكار و الشجب و التنديد الرسمي التي صدرت من معظم العواصم العربية و الإسلامية. تعليمات الإدارة الأمريكية كانت واضحة، و هي تكليف كل التمثيليات الديبلوماسية في العالم العربي و الإسلامي برصد كل تحركات الشارع و المجتمع المدني و بعث تقارير إلى الخلية إياها لوضع بارومتر درجة الغضب الإسلامي و إمكانيات تداعياته على سلامة الأمن القومي الأمريكي.
و لعمري يعتبر ذلك إهانة أخرى للأنظمة العربية و تكريساً لعجزها و فشلها، بل أكثر من ذلك تأكيد لتمسكها فقط بالكراسي، التي يؤدي من أجلها بعض “القادة” الجزية بعشرات المليارات من الدولار، فيما بينت التجارب أن الحصن الواقي الوحيد للأنظمة هي شعوبها عندما تستشعر هاته الأخيرة أن الحاكم يحميها بالديمقراطية و التنمية و التوزيع العادل للثروة، ولعل نموذج الشعب التركي الذي تصدى لانقلاب العسكر أفضل مثال لذلك. فيما هناك حكام اقتنصتهم شعوبهم و مثلت بجثتهم، و آخرون يبحثون عن الحماية بالمقابل فصاروا رهينة لانقلابات مزاج العم سام…
و هكذا لاحظنا ردوداً باردة و نمطية للقوى الإقليمية التقليدية، و بصفة خاصة مصر و العربية السعودية اللتان اكتفيتا بالحد الأدنى من “الإستنكار”، بينما سجلت السلطة الفلسطينية موقفاً ملموساً وحيداً هم رفض استقبال نائب رئيس أمريكا، فيما كان ينتظر أن يتم تعليق التعاون الأمني مع إسرائيل و إنهاء العمل بمقتضيات اتفاقية السلام، التي رماها ترامب في القمامة بعجرفة غير مسبوقة، و تكثيف التعاون مع حركة حماس و تعبئة الشعب الفلسطيني للدفاع عن حقوقه التاريخية.
أما بخصوص نبض الشعوب، فمهما قيل أن المظاهرات و المسيرات لن تغير من واقع الأرض شيئاً، إلا أنها تؤرق الصهاينة و تحرج حاميتهم أمريكا، التي صارت عدوة الشعوب، فيما يشعر مواطنيها بالتهديد و عدم الطمأنينة بسبب موقف لا يعنيهم في شيء، بل هو فقط ثمن أصوات اللوبي الصهيوني بأمريكا ليرضى على الإدارة الأمريكية، و على رأسها ترامب الملاحق بفضائح انتخابية لم تدل بعد بكل أغوارها. تحركات الشعوب تشكل كذلك ضغطاً على القوى العالمية كالإتحاد الأوروبي و روسيا و الصين من أجل موقف حازم ضد احتقار أمريكا لمقررات مجلس الأمن و القانون الدولي، لذلك فكل تحرك شعبي فهو محمود و مرغوب.
إن التجارب التاريخية أكدت و مازالت أن ما أخد بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، و بالتالي فإن ما سمي بالمبادرة العربية و التي احتقرتها إسرائيل و تجاهلتها أمريكا كانت تحصيل حاصل لأمة عربية جعل منها حكامها آلة للخنوع و الخضوع و إذلال الشعوب، فيكف يمكنها أن تطالب بالحقوق التاريخية و بأي قوة ستضرب على الطاولة و تهدد و تنفذ التهديد إن اقتضى الحال. إن فاقد الشيء لا يعطيه، و قد تبين أن من لا يملك القوة لا يملك مصيره بيده. إن نموذج إيران هو الأمثل بهذا الخصوص، مهما اختلفنا إيديولوجياً مع طهران، فهذا البلد “دوخ” أمريكا لثلاثة عقود و قاوم حصارها و جعلها في الأخير تجلس لطاولة الحوار وتخضع لمبدأ “خد و هات” فيما كبريات العواصم الغربية تسارع لإبرام الصفقات التجارية معه و تطلب وده، فقط لأن هذا البلد فرض نفسه كقوة عسكرية إقليمية يحسب لها ألف حساب. و اهم إذن من يعتقد أن من يضع نفسه في موقف الضعف بإمكانه أن يفاوض أو أن يشترط للدفاع عن حريته و مجريات التاريخ تؤكد ذلك و تبين كيف كان و مازال القوي يهين الضعيف و يعبث بحريته و استقلاله و ممتلكاته. لذلك، أولئك الذين يعتقدون أنهم يشترون المناصب و الجبروت مقابل جزيةٍ مهينة و بيعٍ لقضايا الأمة هم واهمون، و سيأتي عليهم يوم يدركون ذلك، و يبدو أنه ما صار بعيداً.