إشكالية القضاء الواقف
سبق و كتبنا في هذا الركن ما يشبه رسالة موجهة لوكلاء الملك ليتحملوا مسؤولياتهم في فتح ملفات الفساد خاصة تلك المتعلقة بالأمن العام و المال العام. لكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي، فالأوضاع تزداد تأزما و الإحساس بعدم الإكثراث يتعاظم.
و بالأمس فقط، عبرت وزارة الداخلية عن تدمرها بعد أن بلغها أن جل مجهودات مصالح الأمن في مكافحة الجريمة، بإحدى مدن الجنوب، تذهب سدى لأن وكيل الملك يطلق سراح جل الموقوفين مما يخلق حالة إحباط لدى رجال الأمن. و صراحة كان الله في عون أولئك الأمنيين و هم يرون المشبوهين يتجولون أمامهم دون أن يكون بمقدورهم أن يحيلوهم على العدالة. تماماً كتلك الجمعية الشهيرة بالدارالبيضاء التي وضعت شكاية مباشرة لدى وكيل الملك بالدارالبيضاء، مرفوقة بالحجج و بتقرير أسود من لدن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية و بتحقيق مثير للصحافة الوطنية حول اختلاس أموال عمومية، و مع ذلك وضعه السيد وكيل الملك في الرفوف منذ ثلاثة أشهر. و هاهي الجمعية قد أشتكت النائب العام لدى الوكيل العام للدارالبيضاء و لدى وزير العدل دون أن يبرح الملف مكانه، و لتذهب الفرقة الوطنية للشرطة القضائية و الجمعية المذكورة و الصحافة و الرأي العام للجحيم!
طيب، إذا كانت مؤسسات الدولة وجمعيات مشهورة و صحف كبرى لا تستطيع أن توصل للنيابة العامة صوتها و إن كان معززا بالوثائق و الحجج، فما بالك بذلك المواطن البسيط بالقرية أو ذاك الفلاح المتواضع بالجبل! أي رسالة تبعث النيابة العامة على بعد شهر واحد من “استقلاليتها” عن وزارة العدل و دون وجود سلطة رقابة و لمن يمكن أن يشتكي هذا المواطن و الهيئات و المؤسسات إذا تقاعست عن مهامها و أدوارها. فالقائمون على القضاء الواقف، و هم نواب وكيل الملك ووكلاء الملك، ليسوا ملائكة لا يخطئون. لأنه، و لنستبعد حتى سوء النية لأن ذلك يدخل في نطاق الجرم الأكبر، لابد من آليات تصحح القرارات و حتى تقوم بالزجر.
المواطن محتاج للإحساس بالأمان أكثر من أي وقت مضى، و أكبر المؤسسات التي بإمكانها أن تزرع فيه الطمأنينة و السكينة هي العدالة و القضاء. و المغرب الذي اختار طريق الإقتصاد المفتوح يعول على الإستثمار لخلق الثروة و خلق دينامية في الإقتصاد. فأي مستثمر يجرؤ على توظيف رأسماله في منظومة عدالتها مهزوزة و مزاجية؟ و ما الذي يضمن له بأن القضاء سيضمن له حقوقه إذا اشتكى من ظلم أو احتيال أو نصب؟
إن من يتجاهل اختلالات النيابة العامة بالمغرب كمن يغطي الشمس بالغربال، و ما دامت هذه الآلية بعيدة عن التقويم فكل حديث عن الإصلاح يبقى مضيعة للوقت. فستبقى الصحف تعج بملفات الفساد و سيبقى أصحابها بمنآى عن المساءلة لأن النيابة العامة بالمغرب، و خلافا لما تصرح به الحكومة، لا تعتبر الصحافة الوطنية مرجعا أو بداية حجة، مع أن القانون يمنحها الحق في التفاعل مع الصحافة و حتى مساءلتها عن حججها في الملفات المعروضة. أما التجاهل التام فهو احتقار للرأي العام الذي يتابع تلك الملفات بواسطة الصحف أو الإعلام الجديد، و أحيانا صوتا و صورة، و هذا ما يزيد المجتمع احتقانا لا يرغب فيه عاقل. و مادام الحديث عن النيابة العامة فلابد أن نذكر أن المجلس الأعلى للحسابات له وكيل الملك خاص به و تحال عليه جميع الملفات. فهل تعرفون أنه إذا ارتأى عدم تحريك ملف ما فمصيره الرفوف مهما كانت خطورة الإختلالات التي يحملها التقرير المحال عليه! و يا ليت السيد جطو يقدم للرأي العام عدد الملفات المحالة على وكيل الملك لدى مجلسه و مقارنتها مع عدد الملفات التي تم وضعها بين أيدي القضاء، ولن يفعل لأنه أدرى بمصيرها!
النيابة العامة “انتزعت” استقلاليتها، وربما إفلاتها من أي آلية مراقبة، لكن أعين الرأي العام ستظل مفتوحة جاحظة تتربص خطواتها لتحصنها من انفلات “الأنا” الذي قد يكون مدمرا.